ها؟ أي جنون هو هذا؟
كانت الغرفة تحتفظ برائحة الخشب القديم، بينما الضحكات المكتومة تتردد في الأجواء، وكأن المكان نفسه كان يشهد على تلك اللحظة الغريبة.
كانت تعابير الوجه تتأرجح بين الضحك والجدية، مما جعل الموقف أكثر حدة، وكأن التوتر يتصاعد مع كل لحظة.
بعد سخرية طويلة، استطاعت السيوف الخمس أخيرًا أن تجلس للتفكير بهدوء ومناقشة ما يحدث.
كانت الأجواء مشحونة، وكأن الهواء قد امتلأ بالتوتر، بينما كانوا يحاولون استجماع أفكارهم لكن...
"إذاً... دعونا ننسى الراهب... الأسود... بفتت... ههه!"
قال بايك تشيون، لكن ضحكته سرعان تسربت عندما استقر نظره على رأس الراهب.
لمعت الرأس بلون أسود قام، فبدت عيناه الكبيرتان المستديرتان كعينا جرو مثيرة للشفقة والسخرية في آن.
حاول بايك تشيون التماسك ومقاومة تلك اللحظة الحرجة، لذا بدأ بالسعال محاولاً التخلص من الضحك الذي كان يزحف نحو وجهه، ثم قال بجدية وعزم
"أيها الراهب، اغسل رأسك وعد... من المستحيل التركيز على هذه الحال."
الراهب التي سمع تلك الكلمات فتح فمه في ذهول وصدمة، كان شعور الظلم الذي انتابه، وجعل الشتائم تتدفق عبر عقله معبرة عن كبت طويل.
إلا أنه لم يجد شيئاً لينطق به سوى شيء واحد:
"أوغاد جبل هوا اللعناء"
رغم تعلمه الانضباط منذ صغره، إلا أن هذه المجموعة كانت بارعة بكسر ذلك الانضباط، وكأنما كانوا يتلاعبون بأوتار أعصابه.
.....
بعد لحظات عاد الراهب، وقد غسل رأسه لتعود بيضاء لامعة، كأنما كان يضيء في الظلام.
جلس في مكانه، والكل يشيح ببصره عنه، وعيونهم تتلألأ بالضحك المكتوم.
عبس الراهب بانزعاج، ورفع صوته غاضبًا، لكن بحذر:
"ما الأمر الآن؟"
ليجيبه بايك تشيون بوجه يحمل مزيجاً من السخرية والمرح:
"لا، هذا... أيها الراهب..الأمر فقط...بفت... كنا قد نسينا كيف كان رأسك يشع قبلاً، لذا... بفت! "
كما تابع يون جونغ الكلام، عابسًا بجدية مصطنعة،
"غير مكانك، رجاءً!"
"هاه لما؟"
تساءل الراهب والذهول يعتري وجهه، ليأت الرد الصادم الذي لم يتوقعه
"لم أعلم أن ضوء القمر بهذا السطوع من قبل!"
كانت كلماته جادة، لكن جسده كان يهتز بأكمله، يكافح ليحافظ على هدوئه بينما كانت ضحكاته تتسلل من بين شفتيه.
مما جعل الراهب يفقد النطق وعيناه تتسعان في دهشة، لكن ألمه كان أكبر لأن من قال تلك الكلمات لم يكن إلا يون جونغ.
'حتى أنت سيجو؟'
في تلك اللحظة، استدارت نظرته نحو النافذة، حيث كان القمر يتلألأ في السماء، وكأنما يشارك في هذه المسرحية الهزلية.
دمعة صغيرة تسربت من عينيه، وهو يحاول أن يهدئ نفسه، لكن الكلمات التي تخرج من أفواههم كانت كالسياط على جلده، تجعل قلبه ينفطر من الغضب والظلم، ومن ثم..
"لا، توقف عن الالتفات! أصبح الضوء أكثر سطوعًا!"
كانت كلمات جوغول هي التي قطعت الخيط الأخير من صبر الراهب.
وقف فجأة، عازمًا على مواجهة الموقف، يده مشدودة كعقدة حديدية، لكن قبل أن يتمكن من التحرك، حدث ما لم يكن في حسبانه.
"بووووم!"
انفتح الباب فجأة، محدثًا صوتًا دوّى في أرجاء الغرفة.
اتجهت الأبصار نحوه، بينما كان هاي يون لا يزال محدقًا في اتجاه واحد، بينما كان يتلو السوترا في قلبه.
كان الراهب يحدق بجوغول الذي اختفى من أمامه في لمح البصر، ليحلق بعيداً بفعل الباب الذي اندفع نحوه وقد تحطم.
كان جوغول ملتصقًا بالحائط، بينما نظرات هاي يون تتناوب بينه وبين الباب المكسور، إلا أن أحداً لم يتساءل عن هوية ذلك الشخص.
كان الأمر واضحاً، من الشخص الوحيد الذي يقتحم المكان هكذا؟، ومن ذا الذي يصر على أن يستخدم قدميه في ذلك، لم يكن إلا شخص واحداً.
'تشيونغ ميونغ'
دخل تشيونغ ميونغ بعد ركل الباب وهو يعبث بمؤخرة رأسه بانزعاج، وينقر على لسانه في تذمر.
"ما هذه الأبواب اللعينة؟ لقد أصبحت مهترئة ويجب تغييرها!"
تبادل السيوف نظرات متفهمة، وابتسامة خفيفة تلاشت على شفاههم، وقد تخلو عن أي محاولة لفهمه.
'تشيونغ ميونغ، من الطبيعي أن يكسر الباب إذا ركلته!'
'إنه باب خشبي وليس حديدًا!'
ترددت تلك الكلمات في أذهانهم، لكن لم يجرؤ أحد على النطق بتلك الأفكار، فكانوا جميعًا يراقبون تشيونغ ميونغ بصمت.
بينما كان يعبس وجهه، كان انزعاجه يطفو على سطح ملامحه، كغيمة سوداء تظلل المكان.
حل الصمت على المكان، وكأن الزمن توقف لحظة، وأصبح الهواء ثقيلًا كالسحاب المظلم.
كانت الأجواء مشحونة بالتوتر، بينما تساءل السيوف في سرهم إن كانت تلك هي نهايتهم المحتومة.
لقد نجوا عدة مرات الآن، لكن الفضل في ذلك يعود لتشيونغ مون، الذي كان الآن يقف أمامهم، لكنهم الآن كانو وكأنهم عراة أمام عاصفة لا ترحم.
إذا أراد تشيونغ ميونغ قتلهم، لما استطاعوا فعل أي شيء حيال ذلك.
فجأة، رفع تشيونغ ميونغ يده، مشيرًا بإصبعه نحوهم جميعًا، متجولًا بنظره بينهم واحدًا تلو الآخر.
بدأ بإشارة واضحة لبايك تشيون، وقال بصوت خافت يحمل برودة عميقة
"أنت"
ثم انتقل إلى يووي سول:
"وانتي..."
توقف لحظة، وكأنما كان في حالة تفكير عميق.
"و... ها؟ أين هو؟"
مال تشيونغ ميونغ برأسه باستغراب، كما لو كان يحاول استجماع قطع اللغز المفقودة.
بعد لحظات، انتبه بايك تشيون إلى الأمر، فرفع يده بحذر وتحدث بصوت خافت، مملوء بالاحترام:
"معذرة... أيها الشيخ؟"
التفت إليه تشيونغ ميونغ، وتعبيره كان خالياً من الاكتراث، عينيه الورديتان تتأملان الحضور دون وعي.
أشار بايك تشيون نحو الحائط، حيث كان جوغول ملتصقًا هناك، كما لو كان يتساءل إن كان هو ما يبحث عنه.
"ها؟ ما الذي يفعله هناك؟"
تساءل تشيونغ ميونغ، وكأن الدهشة تتسلل إلى صوته.
عند هذا السؤال البسيط، فتح الجميع أفواههم بذهول.
'لقد كنت أنت من ركله!'
'سيجو، يجب على الناس أن يملكوا ضميرًا.'
'جوغول المسكين...'
'ساهيونغ، كما هو متوقع منك.'
لكن وبسبب إدراك الجميع لحقيقة أن تشيونغ ميونغ كان مختلفًا.
لم يجرؤ أحد على التفوه بكلماتهم الخفية، حيث كانت الغرفة مشحونة بشعور من الخوف والتوتر.
فلو تفوهوا بتلك الكلمات، لما انتهى بهم الأمر بمجرد التصاق بالحائط.
لوح تشيونغ ميونغ بيده كما لو كانت أمورهم غير مهمة، وتابع ما كان يفعله، وكأنما كان في عالم آخر.
"احضروه واتبعوني."
"ها؟"
قال تلك الكلمات وانطلق خارجًا، تاركًا السيوف متسمرين في أماكنهم، كأنما تم تجميدهم في الوقت.
كانت نظراتهم تتبادل بين الدهشة والقلق، وكأنهم يعيشون في كابوس لا ينتهي.
لكن قبل أن يخرج، توقف للحظات، كما لو كان تذكر شيئاً قد نسيه
"ورأس الحبار أيضًا."
ليخرج بذلك تشيونغ ميونغ من المكان ويتبع الجميع كما لو كانوا أبقاراً تقاد إلى المسلخ.
...............
عندما أشرقت شمس الصباح من جديد، كانت أشعتها الذهبية تتراقص على عيني تشيونغ ميونغ النائمتين، مما أيقظه بانزعاج.
وكان الطفل لا يزال معلقًا به، يغفو بلا اكتراث، وكأنما لا يحمل هموم العالم.
استطاع تشيونغ ميونغ النوم بهناء لأول مرة منذ وقت طويل، ورغم ذلك، لم يستطع التخلص من الشعور غير المريح الذي كان يتسلل إلى صدره، كغيمة ثقيلة تظلل سماء روحه.
نظر إلى الطفل الذي كان متعلقًا به بشدة، يتمتم أثناء نومه،
"أبي..."
نطقها بصوت خافت، لكن الكلمات كانت كالصاعقة التي أصابته بصدمة.
دفعه انزعاجه إلى إبعاده بوجه مشوه، كأنه كان يحاول طرد كابوس آخر.
ومن ثم نهض من مكانه، وجسده لا يزال متألمًا من آثار الليالي السابقة.
ارتدى ملابسه بسرعة، كأنه يحاول الهروب من ذكرى تلك اللحظة، ثم استل سيفه بيد ثابتة، يشعر بوزنه كدرع يقيه من العالم.
خرج من فمه تنهد عميق قبل أن يخرج تاركاً الطفل بمفرده، بينما كانت أشعة الشمس تتسلل عبر النوافذ، ترسم خطوطًا ذهبية على الأرض.
كان الفضاء من حوله مليئًا برائحة الصباح المنعشة، لكن في قلبه، كانت هناك سحابة من القلق.
.......
وفي الغرفة التي ظلت فارغة، فتح الطفل عينيه ببطء، وقد كان يتظاهر بأنه لا يزال نائمًا.
جلس على السرير، يكسوه تعبير غامض، بينما كان يحدق بالباب حيث اختفى تشيونغ ميونغ.
كانت ملامحه تعكس مزيجًا من الفضول والانتظار، وكأنما كان يتوقع عودة شيء مهم.
ثم التفت نحو النافذة، وأخذ يتمتم بصوت هادئ،
"همم، أعتقد أنه لا يزال غير كاف بعد..."
كانت كلماته تتراقص في الهواء، كأنما تحمل معها أسرارًا غير معلنة.
سكت الطفل قليلاً، وراح ينظر في أرجاء الغرفة التي كانت مرتبة بشكل أدهشه، لترتسم على شفتيه ابتسامة راضية وهو ينطق بصوت خافت ورزين
"حسناً، ما زال لدينا وقت طويل لمعرفة بعضنا البعض... أبي."
لكن خلف تلك الابتسامة كانت هناك العديد من الأسرار المدفونة، ككنز مخفي في أعماق البحر.
........................................
في الساحة الفارغة لجبل هوا، حيث كانت الرياح تتلاعب بالأجواء، تنسج خيوط التوتر في نفوس السيوف الذين تجمعوا هناك.
وسطها وقف تشيونغ ميونغ، سانداً ظهره إلى شجرة البرقوق العتيقة، وبجواره صندوق يحوي عدة سيوف، بينما كان شعره الأسود يتمايل برفق مع بتلات البرقوق المتساقطة، مما أضفى على المشهد سحرًا غريبًا.
بدت عينيه ككوكبين بعيدين، هائمين في أفكار لا تُحصى، فرغم أنه كان أمامهم، إلا أنه بدا بعيداً بالوقت ذاته، كمن يعيش في عالم آخر.
مرت لحظة من الصمت الثقيل، تكاد تسمع فيها دقات قلوبهم، بينما كانوا يترقبون متى سيفتح تشيونغ ميونغ عينيه.
وعندما فعل، كانت نظراته تحمل مزيجًا من العداء والشك، كأنما كان ينظر إليهم من خلف جدار من الثلج.
دفع بالصندوق تجاههم بقدمه، مما جعلهم يتراجعون بفزع، كأنهم توهموا أن الصندوق يحمل قنبلة موقوتة، يتدفق الخوف في عروقهم.
ظل يحدق بهم دون أن ينطق بكلمة، نظراتهم تجول بينه وبين الصندوق، وكأنما كان هناك حوار صامت يتجلى في عيونهم.
أخيرًا، نطق تشيونغ ميونغ بصوت بارد كالصقيع في أعماق الشتاء:
"التقطوها."
ما إن نطق هذه الكلمة، حتى تحركت أجسادهم بشكل تلقائي، قبل أن تتمكن عقولهم من معالجة الأمر.
أمسكوا بالسيوف بسرعة، لكن هاي يون، الذي لم يكن بارعًا في استعمال السيف، تردد للحظة.
ليخترق الصوت البارد أذنيه مثل خنجر
"لا تتعب نفسك بالتظاهر، لست بحاجة لسيف."
شعر هاي يون بقشعريرة تسري في عموده الفقري، وبرودة تعصف بجسده، كأنما كانت تلك الكلمات تُلقي بظلال من الخوف على روحه.
تشيونغ ميونغ، في تلك اللحظة، كان يعاملهم كالدخلاء الغرباء، رغم أنهم من جبل هوا.
لذا وهو الذي من شاولين تخيل كيف سيكون وضعه، مما جعل الأيام الماضية من التنمر كانت أكثر رحمة مما هو مقبل عليه.
وبعد لحظات بدأ السيوف يسترقون النظر إلى تشيونغ ميونغ، الذي وقف بلا مبالاة، سيفه متكئًا على كتفه، بينما كانت علامات عدم الرضا والانزعاج واضحة على وجهه.
كانت الرياح تعصف بالأشجار، وكأنها تشاركهم في توترهم، بينما كانت بتلات البرقوق تتراقص في الهواء، لتضفي لمسة من الجمال على مشهد مضطرب.
في تلك اللحظة، تجمدت الأجواء.
كانت كل نظرة تحمل عبء الأسئلة: ماذا سيحدث بعد ذلك؟
ما الذي سيفعله بهم؟
لما هم فقط؟
وفي لحظة من التوتر والصمت العميق، وسط ذهول السيوف، غرز تشيونغ ميونغ سيفه بقوة في الأرض، مما أحدث صدىً مدويًا في الساحة الفارغة.
تأرجحت بتلات البرقوق حولهم، وكأنها تشهد معركةً تُحتمل في الأفق.
أشار إليهم بإصبعه، كأنه يدعوهم للهجوم، يستخف بهم ويزدريهم.
وعلى الرغم من رؤيتهم لتلك الإشارة، إلا أنهم لم يتحركوا.
عندها بدأ انزعاج تشيونغ ميونغ يزداد، ومن ثم أخرج زفيرًا عميقًا، ونظر إليهم بحدة، عينيه تتوهجان بنية قتل غامرة، وكأنهما سيف يُسلط على رقابهم.
تلك النظرة كانت كفيلة بإيقافهم في أماكنهم، حيث شعروا بأن الخوف يتسلل إلى أعماقهم، يختلط مع شعور بالعجز.
"أتسأتون؟ أم آت أنا؟"
كانت كلماته كالرعد الذي يتردد في الفضاء، تدق في آذانهم، مما جعلهم ينكمشون في أماكنهم، وهم في حالة من الشلل، كالأرانب أمام الثعلب.
عقولهم كانت مشوشة، تتصارع بين الرغبة في الهروب والخوف من الاستجابة.
كل واحد منهم كان يشعر بأن قلبه ينبض بشدة، يسرع في محاولة الهروب من الواقع، لكن الأقدام لم تتحرك.
كانت هناك شحنة من القلق تتصاعد في صدورهم، كأنما كانت تلتف حولهم كخيوط عنكبوت، تمنعهم من الفرار.
.......................................
بعد أن خرج من الغرفة كان تشيونغ ميونغ يسير بأرجاء الطائفة، ينتابه شعور غريب كأنما العيون تتربص به من كل جانب.
حدق الجميع بنظرات مدهوشة، وأعين متسعة تتأمل حركاته وكأنما هو كائن غريب قد هبط عليهم من عالم آخر.
عدم الارتياح دفعه للعبث بشعره بضيق، محاولًا طرد تلك النظرات المزعجة،
"اااه، ما الذي يجري بحق؟" همس لنفسه، وقد شعر بأن إحساسًا بالقلق يتسلل إلى قلبه.
لكن وعندما أخفض يده تفاجئ ببتلة برقوق عالقة عليها، إلا أنه لم يفكر بالأمر كثيراً وقد كان الجبل مغطى بأزهار البرقوق.
التفت نحو التلاميذ المتجمعين في المكان، ومع لحظة تلاقي الأعين، توتروا جميعًا وبدؤوا بالهروب سريعًا، كأنما انطلقت صافرة إنذار.
"هاهاها، أسف أيها الشيخ، لقد تذكرت أن المعلم طلب مني أن أفعل أمرًا ما!"
قال أحدهم، وهو يبتعد بسرعة، بينما كان الآخرون يتبعونه كما لو كانوا في سباق.
"يا إلهي، لقد فوت التدريب!"
كما قال آخر والذعر باد على وجهه
"ها، كيف تفعل ذلك؟ فلنذهب، سأحرص على أن تتدرب جيدًا!"
صرخ آخر، بينما كانت خطواتهم تتلاشى في الأفق، تاركين تشيونغ ميونغ وحيدًا في خضم الارتباك.
بدأ استياؤه بالازدياد، وكأنما كان الغضب يتصاعد في داخله مثل بركان على وشك الانفجار.
وبينما كان يتأمل في المشهد، لمح تشيونغ جين الذي كان يسير بطمأنينة، جاهلًا بمصيره المؤلم الذي ينتظره.
اقترب منه تشيونغ ميونغ بهدوء وأمسك بكتفه، ليشعر بالبرودة تتسلل إلى جسده، وكأن لمسة خفيفة من الصقيع قد اخترقته.
التفت بخفة ليجد تشيونغ ميونغ يبتسم خلفه، إلا أنه لاحظ ذلك، كان حاجباه يهتزان، مما جعله يدرك انزعاجه الشديد، فراح يبتسم بحرج محاولاً الهروب من الموقف.
"هاهاها، ساهيونغ... هل فعلت شيئًا خاطئًا؟.. بفت.."
لكن وعند التمعن بمظهر تشيونغ ميونغ تلعثم تشيونغ جين، بينما كان جسده يهتز محاولًا كتم ضحكته، و سرعان ما انفجر بالضحك، محدقًا بتشيونغ ميونغ بعينين تتلألأان بالمرح.
"هاهاهاهاها، ساهيونغ، ما هذا بحق؟ ما هذا؟ ههه، أوتش! توقف، توقف! أسف، أنا أسف، ساهيونغ!"
بعد أن تعرض للضرب الكاف على يدي تشيونغ ميونغ، أخيراً توقف عن الضحك ،وجلس عابساً على الأرض يتحسس رأسه.
"هذا اللعين لما تضحك بمجرد رؤية شخص ما؟"
كان تشيونغ ميونغ يشد قبضته وهو يتذمر مستعداً لجولة أخرى من الضرب، إلا أنه تفاجئ بصوت مألوف مضطرب خلفه.
التفت للخلف ليجد تشيونغ مون واقفًا، يحاول كتمان ضحكته، مما زاد من حيرة تشيونغ ميونغ.
"ساهيونغ؟؟"
نادى تشيونغ ميونغ، وهو يحدق بذهول.
"هذا... أسف تشيونغ ميونغ... إنه.. يناسبك حقًا."
كانت كلماته تتدفق بمرح، وكأنما كان يشارك لغة سرية مع الضحك.
"ها؟"
عند رؤية تشيونغ ميونغ غير مدرك للوضع، تنهد تشيونغ مون تنهيدة عميقة محاولاً تهدئة ضحكته، ثم تقدم نحو تشيونغ ميونغ وقد أخرج مرآة صغيرة من جيبه.
لسبب ما لم يتساءل أحد عن سبب حمل زعيم الطائفة لمرآة معه بالأرجاء، قدم مون المرآة لتشيونغ ميونغ الذي ما إن رأى انعكاسه فيها حتى صاح بقوة:
"ما هذا الجنون؟ أي لعين فعل هذااا؟"
بدأ الغضب يتسلل إليه وهو يشاهد شعره المزين ببتلات البرقوق الزاهية، كان لونها الوردي يتناغم مع شعره الأسود وهو مربوط بطريقة فوضوية وخرقاء.
لم يكن مظهراً سيئاً بشكل خاص، إلا أن رؤية تشيونغ ميونغ بهذا المظهر كانت مثيرة للسخرية، مما جعل مون وجين ينفجران ضاحكين، وكأنما تلك الحادثة قد أضفت لمسة سحرية على يومهما.
تشيونغ ميونغ الذي تذكر بشكل خفيف رائحة البرقوق التي انبعثت في الغرفة مساء أدرك السبب وراء هذا المظهر، رمى المرآة بعيداً واتجه بخطوات سريعة نحوه.
بينما كان تشيونغ مون وتشيونغ جين يتبعانه خشية أن يتسبب بمشكلة ما.
.....................................................................
بينما كان الجميع في حالة الجمود تلك، فجأة، تقدمت يوي سول، متجاوزةً كلاً من بايك تشيون وجوغول.
تلك الحركة كانت مثل شعاع من الأمل في عتمة الليل، لكنها أيضًا كانت تثير قلقهم بشكل أكبر.
حاول جوغول إيقافها، لكن كان الوقت قد فات بالفعل.
تقدمت يوي سول بثقة نحو تشيونغ ميونغ، وعيناها تتلألآن بتصميم حديدي، كأنما كانت تتحدى كل ما كان يحيط بها.
كان وجهها البارد يعكس عزمًا لا يتزعزع، مما جعل تشيونغ ميونغ ينظر إليها بشيء من الذهول.
اتسعت عيناه لبرهة، إذ لم يشعر بها حتى أصبحت على مقربة منه، وكأن الزمن تجمد لحظة أمام عزمها، لكنه سرعان ما استعاد تعبيره اللامبالي.
في الأيام السابقة التي رآها بها استطاع تذكرها بسبب ذلك الحضور الخفيف والغريب الذي تمتلكه، راح يراقب حركاتها بصمت وتمعن.
تقدمت نحوه وبحركة سريعة وجهت سيفها نحو رقبته، لكن تشيونغ ميونغ بحركة خفيفة، حرك رأسه جانبًا، متفادياً ضربتها تلك.
لكن عزمها لم ينثني وعاودت التقدم، كانت خطواتها رشيقة وثابتة.
إلا أن تشيونغ ميونغ، بوجهه الجامد وتجاعيد الانزعاج التي كانت تكسو جبينه، لم يُظهر أي علامة على القلق.
كان يقف بثقة، مستعدًا لاستقبال هجومها.
عندما اقتربت، تفادى ضربة سريعة بمهارة، مُستغلًا ثغراتها، وكأنما كان يرقص حولها.
بضربة خفيفة من سيفه، أصاب ذراعها، مما جعلها تتراجع للحظة.
بايك تشيون، الذي كان يراقب الموقف عن كثب، قرر أخيراً التدخل بعد أن رأى يوي سول تتعرض للهجوم.
اندفع نحو تشيونغ ميونغ، عازمًا على استخدام دقته في الهجوم.
كانت حركاته محسوبة، يبحث عن الثغرات في دفاعات قديس السيف. لكنه، كما حدث مع يوي سول، شعر بحركة تشيونغ ميونغ السلسة، حيث تفادى هجمته بسهولة ووجه ضربة سريعة تجاهه، مما ترك جرحًا صغيرًا على خده.
ومن ثم اندفع جوغول بنمطه المتهور.
كان سيفه يشع بالنية القتالية، لكنه لم يكن يفكر كثيرًا.
انطلق نحو تشيونغ ميونغ بكل قوة، محاولًا توجيه سلسلة من الضربات العشوائية.
لكن تشيونغ ميونغ، بخفة ورشاقة، تفادى تلك الضربات، وكأنما كان يتلاعب بجوهر الحركة نفسها.
في لحظة، استغل انشغاله، ووجه له جرحًا على جانبه، مما جعله يتألم ويأخذ خطوة إلى الوراء.
ومن ثم هاي يون، الذي كان يقاتل بالقبضات، كان يراقب الموقف عن كثب، يحاول التقرب من تشيونغ ميونغ.
كانت يده مشدودة، ووجهه مليء بالعزيمة. حاول الاقتراب من قديس السيف، ولكن كلما اقترب، كان يشعر بالضغط الناتج عن تلك النظرات الحادة التي يوجهها تشيونغ ميونغ.
وعندما هاجمه، تفادى تشيونغ ميونغ قبضته بسهولة، مُعيدًا له ضربة خفيفة، مما جعله يتراجع بحدة.
في تلك اللحظة كانت الساحة تتنفس صمتًا عميقًا، حيث ارتفعت رائحة الخشب المحترق مع توتر الموقف، وأصبحت الأجواء مشحونة بالخوف والقلق.
السيوف، التي اعتادت على الفخر والشجاعة، وجدت نفسها الآن أمام اختبار حقيقي، تحت نظرات تشيونغ ميونغ الثاقبة، التي كانت تحمل في طياتها قسوة لا تُضاهى.
كان تشيونغ ميونغ يتلاعب بهم، يعيد إليهم ذكريات التدريب المريرة، لكن بشكل مختلف تمامًا.
ففي تلك اللحظات السابقة، كان يوجه سيفه بنية تعليمهم، يتذمر طوال الوقت، ويوبخهم على ضعفهم وأخطائهم.
أما الآن، فقد غرق في صمتٍ مخيف، وكأنه قد ألقى بالكلمات بعيدًا، واقفًا في مكانه كجبل صامت.
عند اقترابهم منه، كان يتحرك بخفة ورشاقة، كأنه يتوقع كل حركة قبل أن تحدث، مما زاد من حدة التوتر في الأجواء.
شعر بايك تشيون بقلق متزايد وهو يتجنب إصابة يوي سول عدة مرات.
كلما رفع سيفه، كانت نظرة تشيونغ ميونغ تلاحقه، كأنما كان ينظر إلى حشرة مزعجة تزحف بالقرب منه.
تلك النظرة جعلته يشعر بالمرارة، وكأن شيئا ما قد انكسر داخله.
دفعه ذلك الإحساس للهجوم بكل قوته، محاولًا تجاوز إحساس العجز الذي كان يسيطر عليه.
تبعته يوي سول، وجوغول، وهاي يون أيضًا، كل منهم مدفوعًا بشعور من الإصرار، لكنهم كانوا أيضًا محاطين بالخوف من الفشل.
كانت الساحة تتردد فيها أنفاسهم المتسارعة، بينما كانت أصوات السيوف تصطدم ببعضها، تثير صدىً مخيفًا في الفراغ.
و في تلك الليلة، لم يستطع تلاميذ جبل هوا النوم، فقد كانت الصرخات تتعالى في أرجاء الجبل، تتردد كأصداء في الفضاء، وسيظل صراخها يذكر لاحقًا كأحد أسوأ لياليهم، أسوأ حتى من تلك الليلة التي تعرضوا فيها للهجوم من الطائفة الشيطانية.
...................................................
دخل تشيونغ ميونغ الغرفة بخطوات سريعة، غاضبًا، وعيناه تتقدان كالنار.
كان الطفل جالسًا بهدوء على السرير، منغمسًا في أمر ما، وكأنه يعيش في عالم آخر.
خلفه، كان جين ومون يحاولان تهدئته، لكن محاولاتهما كانت كقطرات ماء تتلاشى في بحر من الغضب.
"ساهيونغ، اهدأ، إنه مجرد طفل!"
قال جين، صوته يرتجف قليلاً من التوتر.
"تشيونغ ميونغ، أنت لن تضرب طفلاً، أليس كذلك؟"
أضاف مون، عابسًا، لكن صوته كان يحمل القلق.
لكن محاولاتهما كانت بلا جدوى، فعلى الرغم من جديتهما، كانت جسدهما المهتز يزيد الأمر سوءًا، كأنما يضيف وقودًا إلى نار الغضب.
عندما لاحظ الطفل قدوم تشيونغ ميونغ، التفت إليه بوجهه المشرق، كأنما الشمس قد أشرقت في يوم عاصف.
"أبي، لقد عدت! انظر ماذا صنعت!"
قالها بصوت مليء بالحماس، عينيه تتلألآن كنجوم في سماء صافية.
كانت الغرفة مليئة برائحة الخشب المنقوش، وأصوات الرياح تتسلل عبر النوافذ، مما أضفى على المشهد جوًا من السكون المتوتر.
بينما كان الطفل يبتسم، انخفضت حدة الغضب في قلب تشيونغ ميونغ للحظة، لكن التوتر ظل يخيم في الهواء، كغيمة رمادية تحجب أشعة الشمس.
توقف لحظة، وتداخلت المشاعر في داخله، بين الغضب والارتباك، وكأنما كان يقف على حافة قرار مصيري.
ليرفع الطفل مجموعة من الرباطات الخضراء المتشابكة، وتقدم بخطوات صغيرة واثقة، محاولًا وضعها حول عنق تشيونغ ميونغ.
كان يقف على أصابعه، وكأنما يحاول الوصول إلى قمة جبل، بينما تشيونغ ميونغ مذهول في مكانه، عينيه تتسعان في دهشة غير متوقعة.
بلا وعي، وجد نفسه يجلس ليتساوى مع طول الطفل، الذي ازدادت ابتسامته إشراقًا عند وضع الرباطات حول رقبته.
ومن ثم تراجع الطفل للخلف قليلاً، واضعًا يديه خلف ظهره، ضاحكًا بمرح، كأنه قد حقق إنجازًا عظيمًا.
"هاها، أليس رائعًا؟ هكذا لن يضطر أبي للبحث عن الرباطات بعد كل قتال!"
قالها ببراءة، كأنما اكتشف سرًا عظيمًا.
كانت فكرة بريئة وطفولية دفعت كل من جين ومون إلى الابتسام برفق، لكن تشيونغ ميونغ، الذي ظل مذهولاً، يحدق بالرباطات، لم يستطع التخلص من الشعور غير المريح الذي تسرب إلى داخله.
آلاف الأسئلة تتقافز إلى رأسه، لكن في تلك اللحظة، كان يشغله أمر واحد فقط
"لم أشعر بشيء."
على الرغم من اقتراب الطفل منه بدرجة كافية ليربط شعره، ومع وضعه الرباطات الآن، لم يشعر بشيء.
جعلت تلك الحقيقة القلق يتسلل إلى عقله، وكأنما كان يواجه ظلًا غير مرئي يطارده.
أقنع نفسه بأن الأمر قد يكون مشابهاً للفتاة في أحلامه، ذات الحضور الضعيف الذي كان يختفي ويظهر كسراب.
ومن ثم تنهد بقوة، معبرًا عن انزعاجه، وسحب الشرائط بينما كان يلتفت إلى أخويه، ليقف مفزوعًا أمام المشهد الذي كان يتكشف أمامه.
بدأ الرعب يتسلل إلى جسده، كأنما كانت خيوط من القلق تتشابك حول قلبه، مما جعله يشعر بأن شيئًا غير طبيعي يحدث.
......................................
مع منتصف الليل، أخيرًا هدأت أصوات الصراخ، وانتشر السيوف في الأرض بلا حراك.
أجسادهم كانت مغطاة بالعديد من الجروح الصغيرة، تلك الجروح كانت تؤلم بشدة، لكنها لم تكن قاتلة، إذ كان تشيونغ ميونغ يتعمد إصابتهم بطريقة غير مؤذية، لكن مؤلمة بشكل كافٍ لتعليمهم درسًا قاسيًا.
ووسط هذه الفوضى، وقف تشيونغ ميونغ مستندًا إلى سيفه، محدقًا بهم بازدراء.
كان وجهه يعكس مزيجًا من الاستياء والإحباط، وكأنما كان يستنكر ضعفهم.
تنهد بقوة، وخرج من صدره صوت كصوت الرياح العاتية، يعبر عن مشاعره الحادة.
ومن ثم أعاد السيف إلى غمده، وهم بالذهاب، لكن قبل أن يخطو خطوة، توقف للحظات، وتحدث بنبرة حازمة وصوت بارد:
"عند الفجر، كل يوم تعالوا إلى هنا."
تلك الكلمات كانت كالصاعقة، تركتهم في حالة من الصدمة، عيونهم تتسع بالدهشة بينما اختفى من أمامهم، تاركًا لهم آلاف الأسئلة بلا إجابة.
لم يستطيعوا فهم مغزى تصرفه هذا، كأنهم كانوا يتلقون درسًا قاسيًا في الحياة.
لكن كان هناك أمر أكثر أهمية يشغلهم، حيث بدأت المحادثات تتدفق بين بعضهم البعض:
"ساسوك."
"أجل؟"
"كيف سنعود؟"
"...."
"لا أستطيع تحريك جسدي."
"فلنأمل فقط أن يأت يون جونغ وسوسو بحثًا عنا."
كانت أجواء المكان مغمورة باليأس، بينما أضواء القمر تنعكس على جراحهم، تلك الجراح التي لم تكن مجرد علامات على أجسادهم، بل كانت تعبيرًا عن معاناتهم وتحدياتهم.
مع تساقط الندى على الأرض، كانت الأصوات تتلاشى تدريجيًا، تاركةً خلفها صمتًا قاتمًا، وكأن الجبل نفسه كان يتأمل في الصراع الذي شهدته.
تلاقت نظراتهم، واستشعروا أن تلك الليلة لم تكن مجرد تجربة قاسية، بل كانت بداية مرحلة جديدة من التحديات التي سيتعين عليهم مواجهتها معًا.
............................
بعد مغادرة تشيونغ ميونغ والسيوف الغرفة، ظل يون جونغ وسوسو في المكان بمفردهما، عيونهما تتلاقى بذهول، كأنما كانا في قلب عاصفة لا تنتهي.
كان الصمت يحيط بهما، وكل منهما يشعر بفيض من الفضول، يودان اللحاق بتلك الجماعة، لكن نظرة تشيونغ ميونغ التهديدية قبل مغادرتهما كانت كافية لتقيد حركتهما.
في تلك اللحظة، كان فضولهم يتلاعب بعواطفهم، لكنهم أدركوا أن ما يحدث في الخارج يبعث الخوف في قلوبهم.
وفجأة، تسلل صوت صرخات من بعيد، وكأنها صرخات معركة أو استغاثة.
حينها شعرا بشيء من الارتياح؛ على الأقل، لم يكن الاستدعاء للجحيم يشملهم.
تبادلا النظرات للحظات، وابتسامة خفيفة مرت على وجه سوسو، بينما كان يون جونغ يتنفس بعمق، كأنما كان يتخلص من عبء ثقيل.
مع كل لحظة تمر، كان الصراخ في الخارج يتلاشى، ليحل محله صمت مفعم بالأسئلة والتوتر.
"هل ننام؟"
سأل يون جونغ بصوت متردد، وكأن فكرة النوم كانت بالنسبة له بمثابة ملاذ.
"فلنفعل ذلك"
أجابت سوسو، وقد أظهرت ملامحها الراحة.
كان كل منهما يحتاج إلى تلك اللحظة من السكون بعيدًا عن الفوضى التي كانت تحدث في الخارج.
اقتربا من النافذة حيث لمحا النظرات المستغيثة من بقية السيوف لكنهما أغلقاها بلا مبالاة.
وهكذا، غطا في نوم عميق، بينما في الساحة، كانت السيوف عاجزة عن الحراك، ملقاة على الأرض كأوراق شجر ذابلة، ليتركوا هناك حتى صباح اليوم التالي.
...........................
كانت الغرفة الآن مليئة بألوان مشرقة، لكن في قلبه، كانت ظلال من الخوف تتزايد، مما جعله يشعر وكأنه محاصر في زنزانة من الأفكار المقلقة.
تحولت ضحكات أخواه تدريجيًا إلى صدى غريب، وتراءى له كهياكل عظمية تقطر الدماء منها.
كانت رؤية وجهيهما الشاحبين، وعظامهما البارزة تحت جلد متجعد، تصطدم بواقع تشيونغ ميونغ، مما جعله يشعر بجسده يرتعش كالسعفة في مهب الريح.
عرق بارد يتصبب من جبينه، وكأن قطرات الماء تلك تحمل معها ذكرى كل لحظة عابرة، وكل ضحكة ماضٍ غادرت.
في تلك اللحظة، كان الزمن يتوقف، وكل شيء من حوله يتلاشى في ضباب من الرعب.
زفرات أنفاسه كانت تتعالى، تتردد في أذنه كصدى بعيد، بينما كان قلبه ينبض بشدة، لكن جسده كان مكبلًا، غير قادر على الحركة.
الطفل، الذي لاحظ اضطرابه، اقترب منه بخطوات هادئة، ممسكًا يده بقبضة صغيرة حنونة، مع ابتسامة بريئة تعكس براءة الطفولة.
وبشكل مفاجئ كانت تلك اللمسة كفيلة بتهدئة أنفاسه المضطربة، بدأت رؤيته تعود إليه، وقد اتضح مظهر أخواه وهما يقفان أمام الباب بوجه قلق.
لكن شعوراً غريباً تسلل إلى قلبه، عدم الارتياح الذي انتابه وقيد جسده دفعه لإبعاد الطفل عنه، وكأنما كان يحاول الهروب من كابوس لا مفر منه.
خرج مبتعدًا من المكان، بينما كان قلبه ينبض بسرعة، وكأنما يرفض الاستسلام للواقع.
كان يشعر بأن كل خطوة يخطوها تنقله إلى عالم أكثر ظلمة، حيث تتداخل فيه الذكريات مع الخوف.
في الخلف، كان أخواه يتأملانه بذهول، ووجههما يتلألأ في ذهنه كأشباح من الماضي.
ثم التفتا نحو الطفل، ظناً منهما أن تصرف تشيونغ ميونغ قد جرحه، ليفاجئا بالطفل وقد ابتسم غير مكترث بما حصل.
ومن ثم عاد الطفل إلى السرير، ليستلقي عليه، تاركًا إياهما في حيرة من أمرهما.
في تلك اللحظة، كان شعور الفقد ينهش قلب تشيونغ ميونغ، وكأنما كان يقف على حافة هاوية سحيقة، حيث تتصارع فيه أصداء الماضي مع واقع مؤلم، عاد الوهم ليختلط بالواقع من جديد، وكسر كل الحواجز التي بناها.
كان يوماً غريباً، وليلة أغرب، حيث تداخلت الظلال والأضواء، وكأنما كان الزمن قد تجمد في لحظة من الجنون.
..........................................
تحت ضوء القمر الفضي، ومع نسمات الليل الخفيفة التي تلاعبت بأوراق الأشجار، كان تشيونغ ميونغ جالسًا على أحد الأفاريز، بجواره زجاجة كحول.
كانت رائحة الكحول تملأ الجو، مختلطة برائحة العشب الرطب، مما أعطى المكان طابعًا غامضًا.
جلس هناك ينظر إلى السيوف الملقاة على الأرض، كخرق قماش مترامية، مما دفعه لينقر بلسانه بإحباط.
"تسك تسك، لا أصدق أن علي أن أجعل هؤلاء الأوغاد تلاميذي!"
بدأ يتذمر، وصوته يعلو قليلاً، يتردد صداه في الفضاء الهادئ.
"ماذا؟ إنهم مجرد أطفال لم تجف الدماء في رؤوسهم بعد، ضعفاء، مثيرين للشفقة."
لكن وبعد لحظات، تلاشت الكلمات في الهواء، بينما كانت نسمات الليل تتسلل حوله كأرواح ضائعة.
كان القمر يتلألأ في السماء، كعين تراقب كل شيء، لكن تشيونغ ميونغ لم يكن يعبأ بذلك.
جبهته مشدودة، وعيناه تعكسان شعورًا بالاستياء، وكأنما كان يجلس على حافة الهاوية.
بعد لحظات، ابتلع تشيونغ ميونغ كلماته، وراح يرتشف الكحول، ممسكًا بالزجاجة بإحكام، وضعها في فمه ليشرب محتوياتها دفعة واحدة.
شعور المرارة كان يتسلل إلى جوانب فمه، بينما كانت الأفكار تتزاحم في رأسه.
كان يتذوق الألم الممزوج بالوحدة، وكأن كل رشفة كانت تعيد له ذكريات مؤلمة.
قبل الحرب، لم يكن ليأخذ أي تلاميذ، كان الأمر مزعجًا، ولم تكن هناك حاجة لذلك، لكنه الآن بات الشيخ الوحيد بالطائفة.
كان يشعر بثقل المسؤولية يضغط على كتفيه، وكأن الجبال تتراكم فوقه.
الآن هو فقط من كان قادرًا على القتال والدفاع عنهم، كأنما أُسند إليه عبء العالم.
اكتست المرارة وجهه وهو يتذكر أخاه، الذي أخبره بابتسامة على وجهه،
"أنا لم أعد أستطيع استخدام طاقتي الداخلية."
لم تكن تلك الكلمات مجرد اعتراف، بل كانت بمثابة صاعقة.
ما شعر به في ذلك الوقت لم يكن الصدمة، ففي مكان ما بداخله كان يعلم، بل كان من المستحيل أن يجهل، وهو الذي اعتنى به وراقبه طوال فترة غيبوبته.
لذا لم يستطع رفض ذلك عندما أخبره بأخذهم كتلاميذ له.
كانت تلك اللحظة عبئًا آخر أضيف إلى أعبائه، لكنه أيضًا كان الأمل الوحيد المتبقي.
في تلك اللحظة، أدرك تشيونغ ميونغ أن القتال من أجلهم لم يكن مجرد واجب، بل كان ضرورة حقيقية.
كان يعلم أن هؤلاء الأطفال، رغم ضعفهم، قد يصبحون يومًا ما القوة التي تحتاجها الطائفة، لكن ومع ذلك مازال شعور من الريبة والشم يتملكه.
إلا أنه اختار أن يتبع قرار أخيه ويثق به كعادته، لذا راح تشيونغ ميونغ ينظر إليهم من جديد، وهو يرتشف الكحول، محاولًا تهدئة الغضب الذي كان يتأجج في قلبه.
كانت رائحة الكحول تغمره، لكن لم تكن كافية لتخفي الأسئلة التي تلازمه.
كان لا يزال يجهل هويتهم الحقيقية، ويتساءل لماذا يدافع مون عنهم بهذا الشكل.
لم يكن يفهم سبب هذا الإحساس الغريب الذي يراوده، شعور بالألفة لم يعرفه من قبل.
"اااا تباً!"
وهكذا انفجرت الكلمات من بين شفتيه، كأنما كانت تعبر عن كل الإحباط الذي كان يعتمل داخله.
ومن ثم استلقى تشيونغ ميونغ على ظهره، محدقًا في القمر الذي كان يتلألأ في السماء، كعقد من الألماس المتناثر.
رفع يده وهو يتأمل ذلك النور البارد، ورغم أنها ليست من عادته، إلا أنه انتابه حنين عميق للماضي، ذكريات كانت تتراقص في خياله مثل ظلال بعيدة.
"لو كان جين هنا، لكان الأمر أسهل..."
همس لنفسه بصوت خافت، حيث جالت عيناه في السماء وكأنما تبحث عن إجابات بين النجوم.
كانت تلك اللحظة محملة بالذكريات، كأنما كان يتحدث إلى روح أخيه التي كانت تحوم حوله.
لكن تشيونغ ميونغ سرعان ما نفض تلك الأفكار، فليس من طبعه الانغماس في مشاعره.
كان يعرف جيدًا أنه بحاجة إلى ترك هذه الذكريات خلفه.
عليه أن يفكر بما يجب عليه فعله في اللحظة الحالية، أن يتحمل الأعباء التي وضعت على عاتقه.
"من أجل جبل هوا،"
همس، وعيناه تتقدمان نحو الأفق، كأنما كان يتعهد لنفسه.
"ومن أجل ساهيونغ."
كانت تلك الكلمات بمثابة وعد، كأنما كانت تعطيه القوة للاستمرار.
في تلك اللحظة، تحول القمر إلى رفيق صامت، يضيء طريقه في ظلام الليل.
بينما كانت نسمات الهواء الباردة تداعب وجهه، شعر بتلك الإحساس المتجدد، كأنما كان يُعيد شحن روحه، مُذكرًا إياه بأن هناك دائمًا أمل، حتى في أحلك الظروف.
.........................................................
في منتصف الليل، وقد نشر القمر بساطه الفضي على أرجاء الجبل المظلم.
سكن المكان وكأن الكون بأكمله قد صمت يستغرق في جماله الساحر.
لكن تحت هذا السكون الخلاب، كانت آلامه تتصاعد كعاصفة في داخله، مما جعله يشعر بالعجز عن إنقاذ نفسه مما ألم به.
تسلق الجبل بخطوات متثاقلة ومضطربة، وكأن كل خطوة تتطلب قوة مضاعفة.
تشابكت يداه بحواف زيه، كمن يبحث عن العزاء في ملمس القماش الخشن.
بينما راح يتأمل الطريق المتعرج أمامه، حيث كانت الأشجار تلوح في الظلام كأطياف خفية، تعكس شعوره بالتشتت والارتباك.
وتسابقت الأفكار في ذهنه كخيول جامحة، بينما تعصف بدواخله وتسحبه لهاوية لا نهاية لها.
لم يستطع أن يفهم كيف للجميع أن يتقبلوا ذلك؟
كيف يتصرفون وكأن كل شيء طبيعي؟
ألا يجد أحد الوضع غريباً؟
كل ما حوله بدا غريباً وغير مألوف، كعالم مشوش يتسرب إلى عقله.
صوت خافت يتردد في ذهنه ويهمس له: كل شيء في هذا المكان هو كابوس مزخرف، وهم زائف ومزيج من الظلال والألوان من أُثر اللعنة.
ومع كل همسة من تلك الأصوات، كانت عيناه تتثاقلان، وكأن النوم قد سُلب منه، ليتزايد الضغط الذي تملكه، دافعاً إياه نحو الخارج، وقد تحرك بلا وجهة باحثاً عن مخرج من ظلامه.
وفجأة، انقطع سكون الليل، ليخترق سمعه صوت منخفضاً، كأنما سيف يقطع الهواء.
تقدم متتبعاً آثاره بخطوات هادئة، وتسلل بين ظلال الأشجار، حتى لمح الشخص أمامه.
توقف للحظة، وقد تجمدت ملامحه، بينما تحولت عيناه إلى بحيرتين عميقتين تتراقص فيهما مشاعر متضاربة: دهشة، فضول، وألفة.
انفرجت تجاعيد جبينه في استغراب، إذ كان المكان الذي توقف فيه هو نفسه كما كان دوماً، ملاذه الآمن، حيث يلجأ كلما اضطربت مشاعره وتاهت أفكاره.
كان مكانًا نائيًا وبعيدًا، كما لو أن صاحبه قد اختار الابتعاد عن ضجيج العالم، هاربًا من نظرات الآخرين.
وقف يون جونغ يتأمل تشيونغ ميونغ في صمت، وشعره الأسود الطويل يتدفق مثل شلال من الليل، ينساب برفق حول كتفيه، ليبدو تحت ضوء القمر وكأنه مغمور في سائل من الفضة.
أما عيناه، فكانتا كبحيرتين من الورد المتفتح، تتلألآن في ظلمة الليل، تعكسان لمحات خافتة من الأمل، كنجوم بعيدة تخترق ضبابًا كثيفًا.
في يده، كان يحمل سيفه، يلوح به في الهواء، وكأنما يتحدى الظلام الذي يحيط به.
لكن حركته كانت غير مستقرة، بسبب الذراع المفقودة، مما جعل سيفه يتأرجح.
زينت تجاعيد القلق جبينه، بينما كانت زوايا شفتيه مائلتين إلى الأسفل، تعبر عن إحباطه.
بدا كمن يحمل ثقل العالم على كاهله، حيث تتراقص مشاعر الغضب والحيرة على ملامحه، وكأن كل حركة صغيرة تثير عاصفة من الانزعاج في داخله.
تسلل شعور غريب إلى أعماق يون جونغ، وهو ينظر نحو تشيونغ ميونغ، فعلى الرغم من أن ملامحه كانت غير مألوفة، إلا أن حضوره كان يفرض واقعية غريبة، تجعل كل شيء حوله يتلاشى.
كما لو كانت الصورة في ذهنه زيفاً خادعاً، ليصبح كل شيء واضحاً كما لو أن ضوء الفجر قد انكشف عن عتمة الليل، ومن ثم:
"ما الذي تفعله هنا؟"
قاطع تفكيره صوت تشيونغ ميونغ البارد والفاتر، الذي اخترق سكون الليل كخنجر.
كانت كلماته تحمل نبرة من اللامبالاة، وكأنه يتحدث من خلف جدار عازل.
في تلك اللحظة، ارتدت نظراته الحادة كالسكاكين، تنفذ إلى أعماق يون جونغ، مما جعله يشعر وكأن كل مشاعره المكبوتة قد تعرضت للتمحيص.
جفل يون جونغ، وتراجعت خطواته للخلف، وكأن الأرض تحت قدميه قد انزلق منها.
عينه تبحث في الظلام عن أي شخص آخر، أي شيء يمكنه أن ينقذه من هذا الموقف المحرج.
لكن المكان كان خاليًا، فقط همسات الرياح تلاعب بأوراق الأشجار، كأنها تتنصت على حوارهما.
أشار تشيونغ ميونغ إليه مرة أخرى، عاقدًا حاجبيه في تعبير من عدم الصبر.
"ألا تسمعني؟"
تقدم يون جونغ ببطء، كمن يتقدم نحو مصير مجهول، يحاول تجنب تلك النظرات التي تشبه خيوط العنكبوت، تتشابك حوله وتمنعه من الهروب.
ألقى التحية باحترام، بينما كانت حركته تتسم بالارتباك، وجسده مشدودًا كوتر القوس.
"إذاً، ما الذي تفعله هنا؟"
سأل تشيونغ ميونغ مرة أخرى، و نبرته أكثر برودة من هواء الليل.
"أنا..."
ترددت الكلمات في حنجرته، وكأنها اختنقت في طريقها للخروج.
كيف يمكنه أن يبوح بما يؤرقه؟ كيف يمكنه أن يشرح سبب وجوده هنا؟
شعر يون جونغ بأن الزمن قد توقف، وأن كل ما حوله قد تلاشى، ليستعيد بذلك ذكرى الأيام الفائتة.
.......................
في صباح هادئ ولطيف على قمة جبل هوا، كانت الرياح تتسلل بين الأشجار، تهمس لها بأسرار قديمة، فتتمايل الأغصان برفق كما لو كانت ترقص على أنغام موسيقى خفية.
الشمس، في أوجها، كانت تنسج خيوطها الذهبية، تتلألأ في الأفق وتجعل كل شيء من حولها مشرقًا.
والظلال تتراقص على الأرض كأنها تحاكي حركات الضوء، مما يخلق لوحة طبيعية ساحرة.
وسط ساحة التدريب، تجمع التلاميذ الصغار، عازمين على بدء يومهم الجديد.
كانت الحماسة تضطرم في قلوبهم، تتلظى كالنار في موقد.
عندما اقتربوا من الساحة، ارتسمت على وجوههم تعبيرات من الدهشة.
اتسعت أعينهم وفتحت أفواههم كأنهم يشاهدون حلمًا يتجسد أمام أعينهم.
كان المكان قد استعاد نظامه بعد الفوضى، لكن طغت عليه آثار معركة قد جرت، حيث تزينت الأرضية الرخامية البيضاء ببقع الدم الحمراء.
وضعت الأيدي الصغيرة على السيوف، تتلمسها بحذر، بينما كانت القلوب تخفق بقلق.
كأنهم ينتظرون عدوًا غير مرئي، يختبئ في زوايا الساحة.
ولكن في خضم هذا التوتر، اخترق سكون المكان صوت مألوف بنبرة منزعجة.
"تسك تسك تسك، أهذا كل ما لديكم؟ وتدعون أنكم تلاميذ جبل هوا؟"
التفوا نحو مصدر الصوت، ليظهر أمامهم تشيونغ ميونغ، واقفًا في المنتصف.
كانت ملامح وجهه تعبر عن استياء واضح، وعيناه تلمعان كأنهما تراقباهم بدقة.
ملابس النظيفة والأنيقة، أبرزت تبايناً صارخاً مع الفوضى التي حوله.
ثم، من خلفهم، جاء صوت ضعيف، يحمل بين طياته ألمًا عميقًا.
"الشي..ط..ان."
تجمدت اللحظة، حيث اختلطت مشاعر الدهشة والخوف في قلوب التلاميذ، وكأنهم كانوا على حافة تجربة لم يتوقعوها.
التفتوا نحو جوغول، الذي كان متمسكًا بالحائط، ملابسه متهشمة ووجهه شاحب يغزوه التعب.
كانت خدوش السيف تغطي جسده، مما أضفى طابعًا دراميًا على حالته، وكأنما كان قد خرج من معركة شرسة.
ومن ثم بدؤوا يقلبون أنظارهم في المكان، حيث كانت يوي سول ملقاة على الأرض، ووجهها الشاحب بات أكثر شحوبًا، كجثة هامدة تحت ضوء الشمس.
و في مكان آخر، كان الأصلع... ها؟
تسللت ضحكة خفيفة من الذعر إلى أفواه التلاميذ عند رؤية هاي يون، الذي كان معلقًا على شجرة، والدموع تتساقط من عينيه كالمطر الحزين، والوضع بأكمله يبعث على الغرابة.
"كيف وصل هنا؟"
"لا، هذا ليس مهمًا، لماذا هو على هذه الحال؟"
عند طرح سؤال التلميذ، نظر الجميع بتمعن إلى هاي يون.
في الأمس، كان يرتدي زي جبل هوا، لكن اليوم...
"ما هذا الزي؟"
"أليس هذا للمتسولين؟"
"كيف حصل عليه؟"
توالت الأسئلة في الأذهان، لكن الإجابات كانت شحيحة.
و لم يجرؤ أحد على السؤال بصوت عالٍ، لكن شيئًا ما كان يجول في خواطرهم.
بين الغرباء، كان هناك شخص مفقود، ذلك الوسيم والأنيق المظهر.
إلا أن حيرتهم هذه لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما استطاعوا رؤيته.
"هذا..."
"...."
"..."
أمام هذا المشهد المروع، تجمد الجميع في أماكنهم، عاجزين عن التعبير عن هول المفاجأة.
حيث كان تشيونغ ميونغ واقفًا، وتحت قدميه، الخرقة التي يدوس عليها لم تكن سوى بايك تشيون نفسه.
كانت أنفاسهم محبوسة، كأنهم شهدوا لحظة من الكابوس، وعقولهم تتصارع مع الفكرة المروعة التي تلوح أمامهم، وكأنهم يشهدون نهاية زمن وبداية آخر مظلم.
تجمدت ملامح تشيونغ ميونغ للحظة، ثم تشوه وجهه بتعبير منزعج، حيث ارتفع حاجباه بشكل ملحوظ وظهرت تجاعيد عميقة على جبهته.
كانت عينيه تضيء بحدة، تحملان نظرة مشتعلة.
"لما تقفون هكذا؟"
"ها؟؟"
جاء ردهم متلعثمًا، كما لو كانوا قد أيقظوا من غفوة مرعبة.
عند سؤاله، تردد التلاميذ للحظات، ثم تراجعوا خطوة إلى الوراء، محاولين الهروب من نظراته الثاقبة.
تجمدت اللحظة في سكون ثقيل، حيث كان القلق يسيطر على الأجواء.
عيونهم تتبادَل نظرات التوتر، وكأنهم يتشاركون نفس السؤال المقلق، لكن لا أحد منهم كان يجرؤ على طرحه، مما زاد من حدة التوتر في المكان.
وفي خضم هذا الصمت الثقيل، بدأ تشيونغ ميونغ يتحرك، مما جعل الجميع ينتبه إليه، وكأنهم ينتظرون الإشارة التي ستحدد مصيرهم.
أشار بيده نحو الخلف، حيث التفت التلاميذ في ذلك الاتجاه.
أمام أعينهم، انكشفت جبال جبل هوا الشاهقة، تتعالى كحراس قدامى، ووعرة.
كانت الصخور تبرز كأنها أنياب، مما أضفى على المكان هالة من الهيبة والخطر.
تبادل التلاميذ نظرات القلق، وقلوبهم تخفق بشدة، يرجون في أعماقهم ألا يكون ما خطر في أذهانهم حقيقة، لكن تلك الأمنية كانت بلا فائدة.
"تحركوا الآن."
رغم نطقه بتلك الكلمات، توقف التلاميذ للحظة، غير قادرين على استيعاب الموقف، لكن بمجرد أن غرس تشيونغ ميونغ سيفه في الأرض، وتشوهت تعابيره بشيء من الغضب، انطلقوا مسرعين نحو الجبل.
كانوا يخبئون بداخلهم آلاف الشكاوى التي لا يجرؤون على النطق بها.
لكن أكثر ما أثار استغرابهم كان التلميذان الغريبان اللذان انطلقا بمجرد أن أشار للجبل، دون لحظة من التفكير.
تسلقا الجرف الوعر بخفة، كما لو كانا يسيران على أرض ممهدة، مما جعل البقية يشعرون بالدهشة من قدرتهما.
في تلك الأثناء، كان تشيونغ ميونغ يراقبهم، وزوايا شفتيه ترتفع بخفة، كأنما كان يستمتع بالموقف.
لكنه سرعان ما ابتعد عن ساحة التدريب، ملقيًا نظرة استنكار نحو السيوف المتناثرة في المكان.
"ساسوك!"
بدأ جوغول ينطق بصعوبة، وهو يجر جسده نحو بايك تشيون، الذي تحرر أخيرًا من قبضة تشيونغ ميونغ.
"هل أنت حي؟"
رفع بايك تشيون رأسه بصعوبة، وكان وجهه الوسيم مليئًا بالخدوش، وكأن كل جرح يحكي قصة معاناة.
بصوت متعب ومرهق، بدأ يتكلم، والحروف تتعثر على لسانه.
"سأتجول كشبح وألعنه."
"الشيطان."
أضافت يوي سول، صوتها يخرج كهمسة خافتة، وهي ممددة على الأرض، وقد تملكها الإرهاق والتعب، كأن ثقل العالم قد استقر على صدرها.
في تلك الأثناء كان يون جونغ وسوسو اللذان اندفعا نحو الجبل بغير وعي منهما، يسترقان النظر نحو الخلف، تشيونغ ميونغ الذي أخذ السيوف تلك الليلة لم يوجه لهما أي أمر.
لم يعلما ما يصنعا لذا اختلطا ببقية التلاميذ بشكل طبيعي، ورغم ذلك لم يلتفت تشيونغ ميونغ إليهم أبداً مما أضاف شعورًا بالارتباك إلى الموقف المتوتر.
وهكذا مرت الأيام، والمشهد يتكرر كل يوم، السيوف المترامين في المكان، التدريب الجحيمي، لا مبالاة تشيونغ ميونغ.
..................................
تحت ضوء القمر الخافت، وقف تشيونغ ميونغ في مكانه المنعزل، ممسكًا بسيفه بكل قوة، بينما كانت أنفاسه تتردد في الهواء البارد.
كان يلوح بسيفه بحركات سريعة ودقيقة، ولكن كل ضربة كانت تحمل في طياتها شعور الانزعاج وعدم الراحة الذي لا يفارقه.
عندما كان السيف يقطع الهواء، كان يبدو كأنه يهاجم أشباح الذكريات التي تطارده، وكل حركة كانت تذكره بفقدان إخوته الذين لم يعد بإمكانه إنقاذهم.
كانت حواسه مشدودة، إلا أنه كان يشعر بثقل الحزن يتسلل إلى قلبه مع كل حركة.
كانت يده ترتجف قليلاً، ليس من الجهد البدني، بل من الوزن العاطفي الذي كان يجثم على صدره.
عندما قام بتدوير السيف، كان يحدق في الفضاء أمامه، وكأنما يبحث عن أعداء غير مرئيين.
لكن في أعماقه، كان يدرك أن أعداءه الحقيقيين هم الذكريات التي لا تفارقه، والصور القاسية للمعارك التي خاضها.
كلما رفع سيفه عاليًا، كانت تلك الصور تتدفق إلى ذهنه: الإخوة الذين سقطوا، الأصوات التي اختفت، والوعود التي لم تُحقق.
كان يشعر كأن السيف أصبح ثقيلاً في يده، وكأن وزنه يتزايد مع كل لحظة تمر.
"لو كنت أقوى..."
تمتم لنفسه، مما جعل عينيه تلمعان بالدموع.
كانت حركته تتباطأ، وكأن الإرادة القتالية تتلاشى في ظل الحزن.
ومع ذلك، لم يتوقف.
كان يعلم أنه يجب عليه الاستمرار، حتى لو كان كل طعنة وكل حركة تذكره بمأساته.
كان يلوح بسيفه، محاولًا تحويل شعوره بالانزعاج إلى قوة، وكأنما يسعى لتطهير روحه من الأثقال التي تعلوها.
لكن في كل مرة كان يضرب فيها الهواء، كان الصوت يرن في أذنه كنداء من الماضي، تذكره بثقل المسؤولية على عاتقه.
وفجأة، شعر بحضور شخص قريب منه.
كان هناك شيء في الجو يجعله ينتبه، وكأن الطاقة المحيطة به قد تغيرت.
التفت نحو الصوت الخافت الذي اختلط مع صدى أفكاره.
عندما نظر، رأى ظلاً يقف على مسافة، كان وجهه مظلماً بفعل القمر، لكن عينيه كانت تلمعان بنور خافت.
تلك النظرات التي كانت تتفحصه بعمق، جعلته يشعر وكأن عالمه الداخلي قد تعرض للاختراق.
.............................
عاد هيون جونغ إلى غرفته، حيث كانت الأضواء الخافتة ترسم ظلالًا طويلة على الجدران، مما أضفى على المكان شعورًا من الغموض.
كانت رائحة الكتب القديمة تعبق في الهواء، وكأنها تحمل قصصًا لم تُروَ بعد.
أمسك بالدفتر مرة أخرى، قلبه ينبض بشدة، وفتح صفحة عشوائية، ليظهر أمامه نص مكتوب بخط مرتعش، يتألق في ضوء الشموع.
"إن كنت أنت هيونغ، فبإمكانك فعلها."
كانت الكلمات تتردد في ذهنه، تشحنه بمزيج من الألم والفضول. بدأ يقرأ، والألم يتسلل إلى قلبه، وكأن خنجراً غُرس فيه.
"أنت مخطأ، لم أستطع فعل أي شيء. لو كنت أعرف التقنيات الطبية لعشيرة تانغ في ذلك الوقت، حينها لربما تمكنت من إنقاذ عدد أكبر من الناس... حينها لربما استطعت إنقاذك."
كانت هذه الكلمات موجهة لشخص ميت، روح فقدت، ورغم أن هيون جونغ لا يعرف شيئًا عن ماضي تشيونغ ميونغ، إلا أن عقله كان قادراً عن استيعاب عمق الحزن الذي يحمله.
كيف له، ورغم سنه الصغير، أن يتملكه كل هذا الندم؟ كانت تلك الأسئلة تتقافز في رأسه، بينما كانت ذكريات تشيونغ ميونغ تطفو على السطح.
يوم قدومه إلى جبل هوا كان طفلاً بلا شك، طفلاً صغيراً تُعانقه عظامه من شدة الجوع.
"هذه المرة لن يتكرر ذلك. اليأس والحزن لفقدان شخص ثمين جداً بينما تكون أمامه مباشرة ثقيل لا يطاق، لذا لا أريد أن يجربه أحد منهم."
كانت نبرة الكلمات تتردد في أذنه، وكأن صدى الوعود القديمة يهمس له من بين الصفحات.
"سامحني، لم أتمكن من رعاية عائلة تانغ كما أوصيتني."
عند سماع هذا الاسم، اتسعت عينا هيون جونغ في دهشة.
كيف يمكن لتشيونغ ميونغ، وقد كان متسولًا، أن يمتلك علاقات بعائلة تانغ؟ استرجع في ذهنه اليوم الذي جاء فيه رب الأسرة وتم التحالف بين جبل هوا وعائلة تانغ.
كان يومًا سعيدًا بلا شك، والفضل كله يعود لتشيونغ ميونغ، لكنه لم يعلم المشاعر التي انتابت تشيونغ ميونغ ذلك اليوم.
"لكن، لقد ورثت تقنياتك بشكل جيد، لا تقلق. حتى لو تسببت عائلة تانغ بأي ضرر لنا، سأدع الأمر يمر بسلام عليهم من أجلك."
كانت الكلمات تتدفق من بين أسطر الدفتر، محملة بوعود لا تنتهي.
"وبما أنني سأفعل، هلّا أتيت نتشارك كأسًا من الشراب كما في الماضي؟ حتى وإن لم يكن طعمها كالسابق... ها، لا بد أنني جننت، لن تستطيع ذلك."
"سأفعل ما تريده، لذا... توقف عن الظهور في ذاكرتي. الوعد السابق قد تحقق الآن."
"أغلق عينيك في سلام، يا صديقي الوحيد والأوحد."
انتهت الكلمات عند هذا الحد، تاركة هيون جونغ في حالة من الصمت العميق.
كان الشخص الذي دعاه تشيونغ ميونغ بصديقه الوحيد من عائلة تانغ، والتحالف الذي تم كان وفاء لعهد قديم.
لكن مشاعر الندم العميق والألم قد وصلته بوضوح من الخط المرتجف والأوراق المجعدة، وكأن كل كلمة منها كُتبت بصعوبة، محملة بأعباء الذكريات التي لا تُنسى.
بينما كانت الدموع تتجمع في عينيه، أدرك أن تلك الكلمات ليست مجرد نصوص، بل صرخات من قلب مكسور، تحمل في طياتها قصصًا لم تُروَ بعد.
..............................
كان يون جونغ لا يزال متسمراً في مكانه، عينيه تتجولان في الأفق، غير قادر على إيجاد كلمات ينطق بها في ظل هذا الجو المتوتر.
كان الصمت يثقل الأجواء من حوله، كما لو كانت كل همسة محظورة.
مشاعر القلق والاضطراب كانت تتجلى على وجهه، حيث كان يحاول أن ينطق، إلا أنه وجد نفسه عالقًا في دوامة من الأفكار.
وبينما كان في حالة الشلل الذهني هذه، انتبه إلى حركة تشيونغ ميونغ، الذي راح يتجه نحو الصخرة القريبة.
عندها، أخرج تشيونغ ميونغ زجاجة من الكحول، والتي كان يحتفظ بها في هذا المكان المنعزل، وراح يرتشف منها ببطء.
كانت زجاجة الكحول تلمع تحت ضوء القمر، بينما كان تشيونغ ميونغ يرفع الزجاجة إلى شفتيه، كأنها وسيلة للهروب من الأعباء التي تثقل كاهله.
كانت كل رشفة كأنها تمنحه لحظة من الهدوء في عاصفة مشاعره، لكنه كان يعلم في أعماقه أن هذا الهروب لن يدوم طويلاً.
استمر في شرب الكحول، بينما كان يقف بجوار الصخرة، عازفًا عن التحدث، وكأن الكلمات قد غادرت عقله.
تسربت نسائم الليل الباردة بين الأشجار المحيطة، حاملة معها همسات القلق.
كان المكان هادئًا، لكن الصمت كان ثقيلًا كالصخر.
في تلك اللحظة، همس يون جونغ أخيرًا، محاولًا كسر حاجز الصمت الذي أثقل الأجواء، لكن صوته جاء خافتًا، وكأنما كان يخشى أن يثير غضب تشيونغ ميونغ.
"تشي..أيها الشيخ..."
كان القلق يتسلل إلى ملامحه، وعينيه تتجولان في الفضاء، تبحثان عن إجابة.
توقف تشيونغ ميونغ للحظة، وأدار رأسه نحو يون جونغ.
كانت تعابيره تبدو غير مبالية، كأنه غارق في أفكار بعيدة.
ومن ثم أعاد تركيزه على الزجاجة التي في يده، متجاهلًا النداء الذي أطلقه صديقه.
"لماذا؟"
جاء سؤال يون جونغ، وقد ارتفعت نبرته، تعكس إحباطه المتزايد.
كانت ملامح وجهه مشدودة، وعلامات الغضب تتلألأ في عينيه.
وضع تشيونغ ميونغ الزجاجة جانبًا، ورفع حاجبه باستغراب، كأنه يتساءل عن سبب قلق يون جونغ.
كانت نظراته تحمل شيئًا من البرود، لكن قلبه كان يحمل أعباءً لا يشعر بها الآخرون.
"لا أفهم أياً مما يحدث. إذا كنت لا تثق بنا، فلماذا استثنيتني وسوسو؟"
استمر يون جونغ، وقد بدأت نبرة صوته تتصاعد، وكأنها صرخة في الظلام.
كانت كلماته تتدفق من قلبه، وسط مشاعر الانزعاج والغضب التي بدأت تتجلى على وجهه.
حينها، أدرك تشيونغ ميونغ معنى كلماته، فجلس على الصخرة الكبيرة التي كانت تحتضنها الظلال.
لم ينبس ببنت شفة، مما زاد من حدة التوتر في قلب يون جونغ، الذي شعر بأن كلماته تتلاشى في الهواء البارد.
قبضته على يده كانت مشدودة أكثر فأكثر، وكأنما يضغط على مشاعره، محاصرًا بين الرغبة في الفهم والغضب من التجاهل.
..............................
في إحدى الليالي كان الفجر يعانق جبل هوا بهدوء، تدرجت السماء بين ظلال زرقاء داكنة، ورمادية فاتحة.
تسلل ضوء خافت برفق، مُشعًا عبر الأفق كأنما يحاول إيقاظ العالم من سباته العميق.
كانت الجبال المحيطة تبدو كأنها نائمة تحت غطاء من السحاب، بينما كانت أشعة الشمس لا تزال تخبئ وراء الأفق، تنتظر اللحظة المناسبة لتظهر.
تخللت نسمات الرياح الباردة بين أغصان شجرة البرقوق العتيقة، مُداعبةً خصلات الشعر الأسود لتشيونغ ميونغ الذي كان مُستغرقًا في نومه، مستندًا ظهره إلى جذع الشجرة القوي.
ببطء، بدأ تشيونغ ميونغ يفتح عينيه الورديتين، حيث كانت ملامحه تتسم بالهدوء والسكينة.
كانت نظراته تتلاشى في عالم الأحلام قبل أن تُدرك حقيقة الصباح.
وعند سماع صوت خطوات هادئة بالقرب منه، تحولت عواطفه من السكون إلى اليقظة.
حيث اقترب جوغول ويوي سول وبايك تشيون وهاي يون من الساحة، محاطين بهالة من الحيرة.
كانت ملامحهم تعكس الاستغراب، وعيونهم تتجول في المكان وكأنهم يستكشفون تفاصيل جديدة في عالم مألوف.
ابتسامة خفية بدأت ترتسم على شفتي تشيونغ ميونغ، كأنما كان يتوقع هذا اللقاء منذ فترة.
"حسناً، سنرى لمتى ستصمدون."
همس لنفسه كما لو كان مقدما على أمر ممتع، ومن ثم وقف، مُمسكًا بسيفه الذي كان يُظهر بريقه تحت ضوء الفجر الخافت.
كانت قامته مسترخية، وعيناه تتبعان السيوف الذين تقدموا ببطء غير مدركين لمصيرهم.
بعد جولة الضرب ليلة أمس، وقد طلب منهم القدوم فجر كل ليلة، لم يكن منهم إلا أن يلبوه ويطيعوا أوامره.
وبينما كانوا يقتربون، شعرت الأجواء بالتوتر، كما لو أن كل شيء كان مُهيئاً لحدث مهم.
كانت رائحة العشب الرطب تعطر المكان، والهواء المنعش يحمل وعودًا جديدة.
وبعد لحظات، توقفت خطواتهم أمام تشيونغ ميونغ، الذي كان يجوب الأرض بسيفه كما لو كان يرسم خيوطًا من الغموض.
انحنى قليلاً، متمهلًا في حركاته، بينما كانت شمس الصباح تتسلل من بين السحب، ترسم ظلالًا متراقصة على وجهه.
تأمل السيوف في فضول، عيونهم تتسع بينما يبدأ يتضح الشكل أكثر فأكثر.
"ها؟ دائرة؟"
همس بايك تشيون بفضول، بينما كانت أنفاسه تتسارع في انتظار ما سيفعله تشيونغ ميونغ بعد ذلك.
وبقيى السيوف يراقبونه بقلق واضح، وامتزجت تعابيرهم بشيء من الفضول والخوف.
اتسعت عيونهم وكأنهم يحاولون قراءة ما يجري في ذهنه، بينما كانت شفاههم تُعبر عن تردد غير مُعلن.
همساتهم خافتة، تتداخل مع همسات الرياح، وقلقهم يتزايد مع كل حركة يقوم بها.
وتبددت الثقة في نفوسهم مع كل خط يُرسم على الأرض، بينما كانوا يحاولون فهم النوايا الكامنة وراء هذا الطقس الغامض.
بينما كان تشيونغ ميونغ، بكل هدوءه الظاهر، يستمر في رسم الدائرة، مُتجاهلًا قلقهم وكأنهم غير موجودين.
وعندما انتهى، تراجع خطوة إلى الوراء، وعيناه تلمعان بثقة غامضة.
كانت الدائرة التي رسمها على الأرض واضحة وبارزة، كأنها تجسد حدودًا بين عالمين.
بهدوء، غرس سيفه في الأرض، مُثبتًا النصل في منتصف الدائرة كأنه يُعلن بداية طقوس جديدة.
ووقف مستندًا على سيفه، حيث كانت قبضته تُحكم السيطرة على النصل.
جسده كان مشدودًا، وعيناه تتقدان بشعلة من القوة والثقة.
تعابير وجهه كانت تعكس مزيجًا من الهيبة والغضب، بينما كان يحدق في السيوف بنظرات تحمل تهديدًا مُبطنًا.
ليتخلل الصمت الثقيل المكان، وكأن الزمن قد توقف ليحتفظ بأسرار خفية.
كان الهواء يحمل رائحة العشب الرطب، بينما انتشرت نسائم الصباح برقة، تعزف لحنًا هادئًا يتعارض مع التوتر الذي يحيط بهم كغيمة داكنة.
أخرج تشيونغ ميونغ زفيرًا عميقًا، كأنه يُحرر استياءً متراكمًا في صدره، فتطايرت أنفاسه كضباب خفيف في هواء الصباح.
ثم، بصوتٍ بارد كالصقيع، أطلق كلماته
"عشر أيام."
"هاه؟"
جاء رد فعلهم كصدى يتردد في الفضاء، نبرته الحادة كخنجر جعلتهم يستعيدون وعيهم من دوامة أفكارهم المشتتة.
كانت عيونهم تتسع في دهشة، وتعلو وجوههم تعابير من الاستغراب والقلق، وكأنهم تلقوا صدمة كهربائية، لكن تشيونغ ميونغ لم يأبه وتابع كلماته الباردة:
"إن استطعتم أن تسببوا لي خدشًا واحدًا أو تخرجوني من هذه الدائرة، حينها..."
توقف للحظة، وكأن نطق الكلمات التالية كان يثير اشمئزازه.
كانت ملامح وجهه مشدودة، ونظراته تُظهر مدى الاحتقان الداخلي، كأنما يعاني من صراع بين غضبه ورغبة في السيطرة.
"لن أسأل عن هويتكم بعد الآن، ... وسأفعل ما يريده ساهيونغ، لكن..."
تجمد الهواء في المكان إثر برودة صوته، وكأن العالم من حولهم قد توقف.
ابتسامة شيطانية بدأت ترتسم على شفتي تشيونغ ميونغ، مضيفةً على وجهه هالة من الغموض.
كانت تلك الابتسامة تحمل في طياتها مزيجًا من السخرية والتهديد، وكأنها تعكس متعة عابثة في ما يُخبئه لهم.
"حسناً سيكون ذلك مسلياً."
انسابت كلماته في الهواء كسم زعاف، تُخلف وراءها شعورًا بالخوف والقلق.
كان كل حرف يُضاف إلى طبقات التوتر التي تُحيط بهم، بينما كانوا ينظرون إليه بعيون متسعة، تعكس مزيجًا من الرهبة والدهشة.
وهكذا، وفي كل ليلة، كانت تُعقد قتالات عديدة، في محاولات يائسة لإصابته، لكن دون جدوى.
كانوا يعودون إلى الغرفة كخرق بالية، مُتعبين ومرهقين، وأجسادهم تصرخ من شدة الألم.
كل ضربة تلقوها كانت تُشبه رصاصة تُخترق عظامهم، تاركة بصماتها على أرواحهم.
وفي البداية، لم يفهموا ما الذي عناه تشيونغ ميونغ بإرادة أخيه.
كانت الكلمات غامضة، تتلاشى في زوايا عقولهم، لكن مع مرور الأيام، بدأوا يدركون القصد.
"ساهيونغ، هل جننت؟ أتريد مني أخذ هؤلاء كتلاميذ؟ أنا؟"
غمرهم شعور من الخوف والقلق، وكأنهم يواجهون عاصفة قادمة.
كانت أنفاسهم تتسارع، تتداخل مع رائحة العرق والدم، بينما كانت جدران الغرفة تُحيط بهم كأطواق من الحديد، تُشعرهم بالعزلة.
تبادلوا النظرات، عيونهم مليئة بالأسئلة، بينما كانت ملامحهم تعكس الصراع الداخلي.
وأجسادهم المنهكة كانت تنبض بالألم، إلا أن العزيمة لم تفارقهم تمامًا.
.........................
راح تشيونغ ميونغ ينظر نحو يون جونغ، الذي بدت ملامح الإحباط والانزعاج جليّة على وجهه.
كانت عيني يون جونغ تلمعان بالتوتر، بينما كانت زوايا فمه مُشَدودة إلى الأسفل، كما لو كان يحمل هموم العالم على كاهله.
وبعد لحظات من الصمت، بدأ تشيونغ ميونغ بتحريك يديه في حركة غير مكترثة، كأنه يزيح ضبابًا من أمامه، متحدثًا بنبرة خالية من العواطف.
"لا وقت لدي لهرائك هذا."
كانت الكلمات تخرج من شفتيه ببرود، كأنها رذاذٌ من الثلج يهبط على نار مشتعلة.
تحركت يده في الهواء كأنما يدفع شيئًا غير مرئي بعيدًا، مما أضاف إلى إحساس الاستهزاء بموقف يون جونغ.
انحنى يون جونغ قليلاً، بينما كانت عضلات وجهه تتقلص، وكأنما يحاول كبح جماح مشاعره المتضاربة.
رغم محاولاته لإخفاء خيبة أمله، كانت عينيه تعكسان شعورًا عميقًا من الاستياء.
كان يمسك بقبضتيه بإحكام، وكأنما يحاول السيطرة على غضبه المتصاعد.
أما تشيونغ ميونغ، فقد ظل واقفًا بثقة، عينيه تتأملان يون جونغ ببرود.
عكست ملامح تشيونغ ميونغ لا مبالاة عميقة، وكأنما كان ينظر إلى مشهد لا يثير اهتمامه.
لكن يون جونغ أبى أن يستسلم، وصاح بنبرة حازمة، ويداه ترتجفان من الانفعال.
"أجبني!"
توقف الزمن للحظة، وتوجهت أنظار كليهما نحو بعضهما، وكأن العالم حولهما قد تلاشى، تاركًا فقط هذه المواجهة.
كانت الأجواء مشحونة بالتوتر، وكأن كل نفسٍ في المكان يحمل في طياته صدى الخوف والأمل.
عينا تشيونغ ميونغ كانتا خاويتان من أي مشاعر، ككرات زجاجية تعكس برودة قاتلة.
ليخرج صوته فاتراً، قاسياً، يتسرب إلى أعماق يون جونغ كغيمة رمادية تطفئ شعلة الأمل.
كانت الكلمات تتدفق ببطء، تُثقل الأجواء برماد اليأس، كأنها حبات مطر تنهمر على سطحٍ جاف.
"لأنها حدودك."
تلك الكلمات كانت كالسيف المُشرع، تخترق صمت المكان، وتترك وراءها جروحًا عميقة.
شعر يون جونغ وكأن الهواء قد انحبس في صدره، كما لو كانت رئتيه محاصرتين في قبضة من الحديد.
كانت صدمة الكلمات كصاعقة برق، أخرجته من عالمه الآمن وألقته في واقعٍ قاسٍ ومظلم.
تراجعت خطواته محاولاً استيعاب معنى الكلام.
بينما كانت ملامح وجهه تُظهر الصراع الداخلي، وعينيه تتسعان في دهشة، كأنما تبحثان عن تفسير في فراغٍ قاتم.
شفتاه ترتجفان، تُعبران عن مشاعر متضاربة؛ الخوف، الألم، والإنكار.
"هل تخبرني أنني لن أستطيع تجاوز ذلك؟!"
قال بصوت متقطع، كأن الكلمات تُخرج منه بصعوبة، تتصادم مع جدران اليأس في داخله.
كانت تلك العبارة كالصراخ داخل صندوق مُغلق، تتردد في أعماق روحه، مما أثار مشاعر مختلطة من الغضب والإحباط.
"مهما بذلت من جهد، من الواضح أين ستكون في النهاية. لذا، لماذا يجب أن أتعَب نفسي بتدريبك؟ هل تظن أن لدي وقتًا للعبة أطفال مثل هذه؟"
تسربت تلك الكلمات إلى قلب يون جونغ كخنجر مُغروز، تُدمي روحه.
كان يشعر وكأن كل أحلامه قد انهارت في لحظة.
سيفه لم يكن سريعًا مثل جوغول،
ولا خفيفًا ورشيقًا كيوي سول،
لم يكن فيه دقة سيف بايك تشيون أو حدة سيف تشيونغ ميونغ
كل فكرة عن عدم كفايته كانت كصخرة ثقيلة تضغط على صدره.
ارتعشت شفتاه، بمحاولة للتمسك بأي كلمة قادرة على الدفاع عن نفسه.
"عادي."
فاجأته تلك الكلمة البسيطة التي نطق بها تشيونغ ميونغ، وكأنها صاعقة كهربائية أطلقت شرارة اليأس في أعماقه.
كان لهذا الوصف البسيط وقعٌ كالمطر الحاد الذي يسقط على أرض جافة.
الإحباط تسلل إلى قلبه، يعصره كما تعصر يدٌ قوية ثمرة ناضجة، مُخلفةً وراءها شعورًا بالمرارة والخيبة.
لكن رغم معرفته بحدوده، إلا أنه لم يكن مستعدًا للاستسلام.
والآن، وقد صدمته كلمات تشيونغ ميونغ بجدار من الواقع زلزل كيانه، شعر وكأن الأرض قد انزاحت من تحت قدميه.
كانت تلك الكلمات كفيلة بإشعال شعلة من الغضب في صدره، مما دفعه للصراخ بحدة غير قادر على كبت مشاعره.
"إذاً لما فعلت ذلك؟!!"
تردد صدى صرخته في الفضاء الواسع، كأنها صرخة روح تُخترق سكون الليل.
لكن تشيونغ ميونغ لم يُبالي به، بل انشغل بمحتوى زجاجة الكحول، يرتشف منها وكأنه يبحث عن الهروب من تلك اللحظة.
لذا ارتفعت نبرة يون جونغ، وكأن كلمة واحدة كانت كفيلة بإبراز كل مشاعره المكبوتة.
"تشونما!"
كان وجهه مُتوترًا، وعيناه تتألقان باليأس، بينما كان جسده مشدودًا كوترٍ مُحكم، وتراقصت ظلال الشك على ملامحه، وكأن كل أمل في التقدم قد بدأ يتلاشى.
بينما توقفت حركة تشيونغ ميونغ فجأة، وكأنما يأبى الزمان أن يفارق تلك اللحظة.
بدأت مشاعر الغضب العارم تتصاعد داخله كبركان مُحتقن، وتسللت نية قتله الهائلة إلى المكان، محملةً بضغطٍ غير مرئي جعل جسد يون جونغ ينتفض في رعب.
كانت تلك النية كعاصفة تهب بلا رحمة، تُخلخل الأرض تحت أقدامهم.
لم تكن تلك المشاعر موجهة نحو يون جونغ بكل تأكيد، لكن تشيونغ ميونغ عجز عن احتواء عواطفه المتفجرة.
وكانت ملامح وجهه تتجمد، عينيه تشتعلان بشغف الانتقام، وكأن كل ذكرى مؤلمة تتجسد أمامه.
"ما الهراء اللعين الذي ستنطق به الآن؟"
نبرته القاسية جعلت يون جونغ يتردد للحظات، لكنه عض على شفتيه مستجمعًا قوته، مُدركًا أن هذه اللحظة قد تكون الأمل الأخير له.
كان قلبه ينبض بشدة، كل نبضة تشبه دقات طبول الحرب، بينما كان صوته يتقطع بصعوبة، وكأنه يحاول اختراق جدار من الصمت.
"كان أقوى منك، يفوق حدود البشر، إذًا لماذا لم تستسلم؟"
عندما انفجرت كلماته تلك في الهواء، تلاشت كل الأصوات الأخرى.
كان الغضب قد بلغ ذروته، وملأ صدر تشيونغ ميونغ كحمم بركانية تتصاعد من أعماق الأرض.
ومع ذلك، فجأة، حلّ الهدوء.
تجمدت كل المشاعر، وكأن الزمن توقف.
كان كل شيء من حوله ساكنًا، كما لو أن العالم قد اختار أن يتنحى جانبًا.
عينيه اتسعتا، لكنهما لم تعكسا أي عاطفة؛ كانتا فارغتين، كأنما احتجزت فيهما العواصف.
انقبضت عضلاته، لكن لم يكن هناك أي حركة.
كان الهواء ثقيلًا، وكأن كل ذرة فيه قد امتلأت بالاحتقان.
لم يكن هناك صدى للغضب، فقط سكون مُخيف يختبئ وراء جدار من الغضب المكبوت.
وتلاشى التنفس السريع، ليحل محله هدوء قاتل.
كان كمن يسير على حافة الهاوية، حيث يكاد يشعر بفقدان السيطرة، لكنه يبقى متماسكًا على حافة الجنون.
في تلك اللحظة، كان كل شيء يبدو بعيدًا، بينما كان هو مركز العاصفة، مُحاطًا بصمت يجرح الأذن.
لم يكن هناك أي شعور بالراحة، بل كان الهدوء يُهيئ لشيء أعظم، كأن البركان قد خمد لكنه لا يزال يغلي في الداخل، مستعدًا للانفجار في أي لحظة.
............................
تعليقات
إرسال تعليق